24 - 07 - 2024

تعا اشرب شاي| حب من قبل الميلاد

تعا اشرب شاي| حب من قبل الميلاد

أبى الحبيب.. تحية طيبة، أما بعد

تعلم جيدا أننى لا أجيد فن صياغة الخطابات، بل و لا أحب كتابتها أيضا، فأنت من علمتنى وتدرك كم كان يرهقنى ذلك.

 ولكنى قرأت منشورا لأحد الآباء، يعتب فيه على الأبناء، لأنهم يتعلقون بأمهاتهم منذ فجر طفولتهم، يسألون عنها كلما شعروا بالمرض أو الخوف، ولا يهنأون بفرح إلا وهى معهم، و أن حبهم لآبائهم، دائما ما يأتى متأخرا! 

ربما لا تعلم يا أبى متى أحببتك؟ ذلك لأنى أيضا لا أعلم، فلا بداية ولا نهاية لحبك .

دائما ما أتهم نفسى بالنسيان، ولكنى أتذكر كل حركاتك وسكناتك معنا .

مازلت أتذكر كيف كنت أفر من بين أقدام أمى فى طفولتى المبكرة لأذهب  إليك فى غرفة "الصالون" وأنت جالس بين أصدقائك وأرتمى فى أحضانك، فتضعنى فى حجرك وتظل تهزنى فى حنان حتى أروح فى سبات عميق .

وما زلت أحن لتلك الأيام التى كنا نتسلل إليك فى غرفة نومك كى نوقظك، فتمسك بأيدينا الصغيرة واحدا بعد الآخر وتحملنا على قدميك وترفعهما ، ثم تلقى بنا من علٍ ، فنتزاحم عليك لتكرر الأمر ذاته وقلوبنا الصغيرة تكاد أن تتوقف من فرط الضحك والإثارة.

لا زلت أتذكر دفعك للدراجة التى علمتنى كيف أقودها، وركضك خلفى كى لا أقع، لا زلت أتذكر وجهك، عندما تمايلت بى الدراجة وأنت تسندنى وقد أخذت أصرخ، بينما كنت تتمتم بطمأنينة وضحك: يا عبيطة! حسنا لقد صرت بعدها محترفة وأصبحت أسابقك.

ربما لا تتذكر تلك الليلة التى تركتنى أمى وحدى معك، لقد كنت جالسا منكبا على مكتبك، كنت ما تزال تدرس رسالة الدكتوراة حينها على ما أعتقد .

يومها نَظَرْت إلىْ بشفقة وشعرت بما أعانيه من ملل، فملأت لى قِدْرا من الماء ووضعت به كوبا من البلاستيك، كدت أجن من الفرح، إنها لعبتى المفضلة التى كانت تكرهها أمى - للفوضى التى تُخلفها- ، أخيرا سألعب دور بائعة اللبن التى كانت تزورنا كل صباح، كنت أرمقها بفضول وشغف وهى تملأ اللبن ثم تصبه .

اَتَذْكُرُ يا أبى تلك الليلة؟ حسنا لا تنزعج لم أخبر أمى كما إتفقنا، لقد قمت لتمسح بقايا الماء -آثار الجريمة-  كما أخبرتنى بعد أن اكتفيت من اللعب، وذهبت أنا لألقى الماء فى المرحاض، ليقع الكوب مع الماء بداخله .

 كنت قد عدت أنت الى مكتبك، بينما جئتك بوجه ممتقع لا أثر فيه لحمرة دم، لأخبرك بوجل بما حدث ، فَرَبٌتت على ظهرى بهدوء، و لبست فى يدك كيسا وأخرجت الكوب وقذفت به فى القمامة بعد أن غلفته حتى لا تلحظ أمى.. لقد كنت أراك ساحرا حقا.

أتدرى شيئا؟ لا أكاد أتذكر أننى ذكرت إسم فاكهة أمامك، إلا ووجدتها أمامى فى اليوم التالى - دون ان أطلبها- وطبعا لا أنسى (عين الجمل) الذى لم تأت يوما من سفر إلا و قد أخرجته أول شئ من حقيبتك، لأنك تعلم كم أحبه .

 حسنا، سأقول لك سرا، لقد كنت نائمة حين قَدِمْت من الخارج ذات يوم، وسألتك أمى: كيف كان المؤتمر؟ فأجبتها: كان رائعا، لقد أعدوا لنا وليمة عامرة فى آخر اليوم، والله كنت لا أستطيع أن أبتلع الطعام، كان الأولاد فى عينى.. نعم هذا ما قلته باللفظ ذاته، كنت صغيرة و كانت تلك المرة الأولى التى أسمع فيها جملة مثل هذه، ولكنى فهمت ماذا تقصد، من الطريقة التى كنت تتكلم بها، لقد كدت تبكى .

حبيبى الغالى: دعنى أخبرك أننى لم أنس أوقات غضبك أيضا، وأننى أحب أن أرى فيلم (أحمر شفايف) لفنانك المفضل (نجيب الريحانى) كى أراك .

 أتدرى شيئا، لقد علمت كم هو عبقرى لأنه يشبهك كثيرا فى هذا الدور، دور الأب الحنون الذى يعلم أن عليه أن يبدو حاسما فى بعض الأحيان ولكنه لا يفلح، ولا أعلم حتى الآن، هل كنت تعد كوب الشاى - الذى كنت تصالحنى به - قبل أن تقوم بدورك فى إغضابى؟ حقا كيف كنت تأتينى به بهذه السرعة! 

أنا الآن أبتسم وفى عيني كثير من الدموع، وأنا أتذكرك واقفا بصينية الطعام أمام غرفة أخى، وأنت تشير إلىْ فى صمت أن أحملها عنك وأدخل إليه بها، كى لا يرى ضعفك أمام غضبه وامتناعه عن العشاء معنا.

أريد أن أعترف لك للمرة الأولى أننى لم أكن أحب قصيدة (أغار من نسمة الجنوب) ولكنى كنت أتصنع الإعجاب حين كنت تنادينى لأسمعها معك، كى أحظى برضاك، ولكنى أقسم لك أن الوقت الذى كنت أقضيه فى ذلك التصنع، كان من أجمل أوقات حياتى .

  آه يا أبى لو تعلم كم صرت أبكى كلما إحترقت إحدى يديٌ من أثر زيت الطعام المتناثر من المقلاة، لقد قمت من نومك يوما وأنت فى مرض الموت لتضع يدى فى الماء البارد عندما وقع السمن الساخن على يدى، وعندما أصرت أمى أن أذهب إلى بيتى لأستريح، كانت تتصل بى لتخبرنى أنك أمرتها أن تذكرنى بموعد "المضاد الحيوى" الذى صرفه لى الطبيب .

سامحك الله يا حبيبى.. كم صَعٌبْت علىْ الحياة من بعدك!! 

منذ عدة أشهر كنت أتصفح أحد مواقع التواصل الإجتماعى، ووقع بصرى على إحدى المقالات مذيلة بإسمك، خفق قلبى بشدة حتى كاد أن يتوقف .. اقشعر جسدى ونظرت إلى السماء وأنا أتساءل: ماذا وضعت فى الدم يا إلهى كى نحن إلى آبائنا كل هذا الحنين! 

هل رأيتنى يا أبى فى ذلك اليوم؟ لقد كنت مشتاقة كثيرا لتلك اللحظة التى أنفرد فيها بنفسى.. مسحت إبتسامة زائفة من فوق ثغرى، وطَلٌ على وجهى حزن ظل يحاصرنى حتى أرغمنى على الاستسلام.. إنحدرت من عيني دموع غزيرة طال شوقها للسقوط.. أجهشت ببكاء تسترت عليه تلك الحوائط الصماء من حولى، ولكنى ما لبثت أن تذكرت أن لى أحبابا قد سبقونى إلى العالم الآخر، يشعرون بى ويحزنهم حزنى، فكفكفت دموعى ورسمت على وجهى إبتسامة يصدقها الكثيرون، ولكن من رسمتها من أجلهم هم أدرى الناس بأنها كاذبة.

لقد كانت أمى دائما تقول لى: أعلم أنك تحبين أبيك أكثر منى، ولكنها ليست الحقيقة، فأنا كنت لا أتخيل اننى سأستطيع العيش بدون أي منكما، كانت هى كالماء الذى يحيط بالأسماك كى تتنفس وتحيا، وكنت أنت كقطعة السكر الذى يُحَلٌى تلك الحياة، فلما رَحَلْت اصبحنا نحيا بغير حَلاوة، وحين رحلت أمى أصبحنا نتنفس من غير حياة!  

أبى الحبيب:  هل تصلك دعواتى؟ تعزينى كثيرا فكرة أننا سنلتقى ثانية، وأحاول أن أجتهد كى يجمعنى الله بك وبأمى فى جناته، دائما أسأل الله السلام، أن يدخلكما دار السلام ويبلغكما منى السلام.. ليت رسالتى هذه تصل إلى ذلك الأب الطيب، الذى يظن أن الحب الذى يجمعنا بآبائنا ياتى متأخرا.

سلاما يا من أعد حقائب البهجة، ثم حملها ورحل.. أسأل الله أن ألقاك راضية مرضية، وحتى ذلك اليوم، لك منى دعوات وحب وإشتياق لا يكاد الكون أن يسعه .

 ابنتك التى أحبتك من قبل ميلادها

أماني
-------------------------
بقلم: أماني قاسم

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف